في مساء اليوم التاسع من نيسان 1980 كشف رجل طاعن في السن من آل الصدر عن نعش كان قد وصل توا من بغداد ، فوجد آثار التعذيب على وجه وجسد الشهيد الكبير .
هنا كان (محمد صادق الصدر ) اول من تأكد أن عقل الصدر قد توقف لاول مرة عن التفكير لسبب وحيد : هو الموت .
ولم يكن الصدر يسمح لأي ظاهرة بايلوجية أخرى غير النوم والموت أن تحول بينه وبين التفكير المستمر .
فصاحب هذا النعش كائن عقلي مسكون بحب المعرفة ونقد الأفكار ، لا يسمح لفكرة ما أن تمر على خاطره من دون أن يوقفها ، ويقيم لها محكمة من النقد ، كان دماغه الشرقي الضخم هو القاضي الأول فيها .
ظل يفكر نيابة عن الأمة التي سلبها الاستبداد لبها ، واستقالت عن مهمة التفكير والمراجعة ، فصار بذلك ضميرا لها ، تعود إليه ، وتتحسس نبضه ، كلما شعرت أن الأمور تزداد التباسا من حولها .
الفيلسوف الحي و المستبد الميت لا يجتمعان في مدينة واحدة .
الحياة أصغر من أن يتقاسمها مثل الصدر مع الدكتاتور الذي قتله ، إنها لا تتسع لهما معا .
الحكومة الديمقراطية في اثينا قتلت الفيلسوف الأول سقراط ، واجبرته على تجرع كأس السم .
لم تتسع (أثينا ) حينها لعقله الكبير فتركها للسذج و الرعاع .
ولم تتحمل الكنيسة الكاثوليكية في الفاتيكان غاليلو وهو يحاول أن يثبت أن الأرض تدور ، مقابل رغبة الكنيسة في بقائها ثابتة .
فليس غريبا أن يموت الصدر ويبقى صدام ، بل كان الغريب أن لا يموت الصدر كما مات .
قطع الشهيد الصدر طريق بغداد النجف مرتين ؛ الأولى في حياته ، والثانية محمولا على نعش من خشب .
الاولى كانت في الاربعينيات والثانية في يوم 9 نيسان 1980 .
161 كيلو متر هي المسافة بين بغداد والنجف قطعها الصدر مرتين :
الأولى عالما ، والثانية شهيدا .
في بغداد تجذر اهتمامه السياسي الاول عن طريق عمه رئيس وزراء العراق السيد محمد الصدر ، وزميله في المدرسة الابتدائية الشهيد محمد هادي السبيتي ، ومدير نفس المدرسة السيد مرتضى العسكري .
وفي النجف تجذر نبوغه الفكري ، ووضع أفكاره الفلسفية في مشروع نهضوي حضاري غاية في العمق ، والدقة ، والثقة بالنفس .
مارس الاعتراض العقلي الذهني الذي قاده لتنظيم حركة الاعتراض الكبرى على كل ما هو فاسد ، وبالي ، وسكوني ، ومألوف ، وظالم ، في واقعه الخارجي .
استعار ضمير المتكلم من أمة شوه الاستبداد ضميرها ، فكتب ما كتب وهو ينطق نيابةعنها في ( فلسفتنا ) و (اقتصادنا ) و ( مجتمعنا ) .
في السابعة أو الثامنة من عمره فاجأ أخاه وأستاذه إسماعيل الصدر بالاعتراض الأول محتجا باستحالة ( الدور ) في منطق الفلاسفة .
وفي نفس العام شرع في محاولته الأولى في الكتابة عن سيرة أهل البيت ، أعقبها بكتابه الأول (فدك في التاريخ ) وهو غر لم يبرح الحادية عشرة .
ثم لم يتوقف عن الاعتراض العقلي على كل ما لم يقتنع به من الأفكار ، والفلسفات ، والنظريات التي مرت على عقله ، وهي تحكي قصة الف ومائة عام من الفلسفة .
ستة واربعون سنة محيرة من التفكير الذي لا ينقطع ، تلك هي ظاهرة الصدر .
عمر عجيب..!!
ثماني سنوات : محاولة أولى للتأليف
أحد عشر سنة : كتابه الاول
خمسة عشر سنة : فقيه مستنبط
اثنان وعشرون سنة : يؤسس حزبا ويكتب الأسس.
في الثلاثينات : فيلسوف عنيد ومنظر اقتصادي .
في الاربعينات : مرجع تقليد .
في السادسة والأربعين من عمره : شهيد لا ينسى .
هذه هي الحسبة المحيرة التي جعلت من الرجل كبيرا في كل المقاييس .
مع أن معركته الفكرية الأولى كانت أقرب سببا بأفكار ( كارل ماركس ) الهيغلي الالماني الشاب – اقول هذا بعد تبين أن اليسار الهيغلي لم يكن موجودا في المانيا اصلا – إلا أن هيغل كان خصمه الفلسفي الاول .
لم يقتنع الصدر منذ وقت مبكر بمنطق هيغل الذي حاول تجاوز المنطق الارسطي الكلاسيكي الذي كان الشهيد الصدر يسميه (منطق الإنسانية )
اعترض الصدر على منطق الفيلسوف الالماني العملاق في الموضوع ، ونقيض الموضوع ، ومركب الموضوع وهدم الضلع الثاني ليوقف التناقض عند حدوده المعقولة .
لقد جهد هيغل في تمويه ثلاثية الاب والابن وروح القدس ، والعقل والروح والإحساس ، والألمان يقولون ( Aller guten Dinge sind drei )
أي : الأشياء لا تستقيم إلا على ثلاث .
وحفظ الصدر لمدرسة الشك حقها في الوقوف عند نصف الحقيقة ، واعتبر أن الشك هو اول درجات العلم . لكنه عاود الاعتراض على إطلاق الشك كمنهج عام يحيل الشك إلى غاية في التفكير .
واعترض على تفسير (السكاكي ) للمجاز حتى تعجبت في أول قرآتي لنقده كيف اقتنع من اقتنع بهذا التفسير..!!
واعترض على استاذه الخوئي في تفسيره للأحكام الشرعية الظاهرية من خلال نظرية ( المصلحة في الجعل ) واعتبر أنها تفريغ للحكم الظاهري من محتواه الحقيقي .
واعترض على منهج المفسرين القدماء في التفسير المقطعي التجزيئي للقرآن وأفاد أن الجمع الموضوعي الذي يقفز على تراتبية السور هو الانفع في التفسير .
واعترض على إمضاء الاستقراء الناقص عند أرسطو واعتباره منتجا للبديهيات وأعاد بناء اسس منطق الاستقراء ليعطيه تفسيرا غاية في الجدة .
وأعترض فكرة العلاقة الطولية بين الله والناس ، وأصر على أن الدين ينظم علاقات الإنسان في ثلاثية أخرى هي :
علاقة الإنسان بخالقه ، وبأخيه الإنسان ، وبالطبيعة ، ليعيد التوازن لعلاقة الإنسان المتدين بمحيطه الابعد والاوسع .
واعترض على تفسير كارل ماركس ( لفائض القيمة ) في (رأس المال ) .
واعترض على استبعاد الفقيه من حياة الناس ونظر لشورى المؤمنين ، ثم لولاية الفقيه ، ثم لدور الفقيه في الدولة .
وأعترض فكرة التشكيك بخاتمية النبوة المحمدية ، واعتبر الإسلام دينا يليق بالانسانية الرشيدة ، ولم يسقط في فخ نهاية التاريخ الذي سقط فيه فوكوياما فيما بعد .
وحاول من دون ملل أن يعيد الاعتبار إلى أمة طالما اتهمت من الآخر بقصور وعيها التاريخي .
كان الصدر عراقيا أثر فيه المحيط ، والتاريخ ، والبيئة ، والتحديات .
كان الصدر عراقيا كما كان ( توماس هوبز )انكليزيا ، و ( ديكارت ) فرنسيا ، و (ايمانويل كانط ) المانيا .
تفعل البيئة ،والجغرافيا ، والتاريخ والمجتمع ، فعلتها بالفلسفة ، فتجعل الأفكار سببا كافيا لقيام الثورة في فرنسا ، بينما تقصر نفس الأفكار عن القيام بثورة في ألمانيا فشلت في 1848 .
دفع فشل الثورة الشباب الهيغلي إلى التبرم من مثالية هيغل ، والذهاب بعيدا في تحليل علاقات الإنتاج ، والوسائل ، وفائض القيمة الذي جعل كارل ماركس يغادر مدينته ( ترير ) في غرب المانيا ، ويمكث قريبا من المتحف البريطاني خمسة عشر سنة ، يدرس المجتمعات ، والطبقات ، وحركة المال ، ليخرج بعدها إلى العالم بكتاب رأس المال والبيان الشيوعي ، وليكتب نظرية لم تقنع الألمان ، لكن روسيا صنعت منها ثورة كبيرة هزت العالم .
كذلك كان الصدر عراقيا نشأ في أمة اعتمل فيها التاريخ ،وتشعبت فيها المذاهب الدينية ، والعلمية والسياسية .
كان فقيها من فقهاء النجف ، المدينة التي حوصر فيها درس الفلسفة من قبل جامعتها العلمية العريقة حتى شاع فيها أن من تمنطق فقد تزندق .
كيف لا يتجرأ الصدر وهو يرى أن الباب الذي فتح على الأمة كان قفله ومفتاحه : الفلسفة .
كيف ظلت النجف تعتقد أن رد السلام ، ودفن الميت ، واجبا كفائيا ، ولا تعتقد أن رد الفلسفة الباطلة كذلك..!!
كان فقيها ولم تكن الفلسفة هي حقله المعرفي الأول ، لكنه اضطر لركوبها حين اعيته الحيل .
لم يضارعه في العطاء أحد من أبناء قرنه الذي عاش فيه ،بل إن من الخطأ الفاحش أن نقول : ماذا أعطى الصدر ، والصحيح أن نقول ماذا أخذ الصدر ؟
منح أمته وقضاياه التي آمن بها كل وجوده المبارك الشريف ، وترك الدنيا التي طالما حذر أتباعه من الوقوع في حبها .
حين لم يبق معه إلا دمه الشريف ، لم يبخل به وقال : أن الأمة بحاجة إلى دم مثل دم الحسين .
عجيب والله أمر هذا الرجل ..!!
حكم عليه بالموت…
أحرقت كتبه ثلاثة وعشرين سنه …
وحكم على أتباعه بالموت أين ما ثقفوا ..
ونقله دفانه بين ثلاثة قبور …
بعد ثلاثة وعشرين سنة خسف الله الأرض بقاتل الصدر في نفس اليوم ذلك اليوم .
اليوم الذي وصلت فيه جنازة الصدر الى النجف في نعش من خشب عام 1980 .